التخطي إلى المحتوى
كارثة ثقافية مؤلمة

كارثة ثقافية مؤلمة

 

كتب/ عدنان باوزير

توقعت أن يكون مبنى المتحف الوطني بصنعاء قد تعرض للضرر من جراء تعرض مبنى صحيفة (26 سبتمبر) المجاور بمجمع التوجيه المعنوي للاستهداف بفعل غارات طائرات العدوان الصهيوني الأخيرة على العاصمة صنعاء، وقد تحاشيت الاتصال بأحد الزملاء هناك للسؤال مخافة أن يصدمني بخبر لا أريد سماعه، الى أن شاهدت اليوم تقريراً لقناة الجزيرة عن وضع المتحف بعد القصف، يعتبر هذا المبنى الأيقوني (دار السعادة) أحد أقدم وأهم معالم العاصمة التاريخية، وقد اُنشئ بمنطقة (بستان المتوكل) بالأصل ليكون بيمارستان تركي (تركي) ثم أتخذه الإمام (يحيى) بعد جلاء الأتراك كمكان لسكنه الشخصي ومقراً لحكمه، ودرج على ذلك من خلفه، ثم شُغلته بعد انقلاب (سبتمبر 62) بعض المصالح الحكومية حتى أنتهى به الحال كمتحف وطني في عام 1988 ويعد المبنى جزء من مجمع أكبر يضم مقرات حكومية سابقة اُلحقت تباعاً بمجمع المتحف وأهمها (الدار المالية) أو (دار صك العملة) والذي اُستخدم لفترة كمقر لمصلحة الأحوال المدنية، والذي رمم جيدا وألحق بالمبنى الرئيسي ليكون عبارات عن صالات عرض أوسع مقارنة بغرف المبنى الصغيرة، وهو الظاهر في الصورة على شكل الحرف اللاتيني ((L ومبان أخرى، ويضم أيضاً مسجد صغير لنساء الإمام، ومصالح أخرى، حتى أن هناك نبع صغير سجلت الوثائق التاريخية وجوده في فناء المبنى الخلفي وتم جرت محاولات لإعادة احياءه من جديد.

حالة المبنى بطبيعة الحال هشة ولا يتحمل أي هزة، نظراً لتقادم السنين وطبيعة مواد البناء التقليدية التي استخدمت في بناءه، وقد انضممت لطاقم المتحف طوال حوالي خمسة عشر سنة ((1990-2005 كأمين لقسم آثار ما قبل الإسلام، وطوال هذه الفترة والمبنى يخضع لأعمال ترميم متواصلة، وطبعاً أعمال الترميم قد سبقتني وقطعاً أنها لم تتوقف بعد مغادرتي، وتعلمون مدى صعوبة وتعقيد ترميم المباني التاريخية.

وبالإضافة لأهمية المبنى التاريخية والمعمارية والجمالية هناك أهمية أخرى وهي أهميته الوظيفية بكونه متحف، أي مكان لحفظ الذاكرة الجمعية للبلد وسجل شامل لتاريخه عبر العصور، ولأنه متحف وطني فقد كان لزاماً عليه أن يغطي كل تاريخ وجغرافيا اليمن، وأن يضم ضمن مجموعته الأثرية قطع من مختلف مناطق وممالك جنوب الجزيرة العربية القديمة، من سبأ ومعين مروراً بحضرموت وأوسان وقتبان وليس انتهاء بحمير، حيث يتصل مجموعته الأثرية والتراثية –ان لم تخني الذاكرة- الى قرابة المئة ألف قطعة متحفية مختلفة، ومن هنا تأتي أهميته الكبرى.

تألمت كثيراً وأنا أشاهد زملائي وهو ينقبون تحت ركام عن القطع الأثرية التي كانت معروضة في صالات المتحف وكأنهم يستخرجونها من باطن الأرض لأول مرة، ويعدون ترميم ولصق المحطم منها، فالإضافة لتحطم أغلب نوافذ وأبواب المبنى وسقوط أجزاء من سقفه وفترينات عرضه، فقد تدمرت وتكسرت كثير من قطعه الأثرية وهذه خسارة عظيمة أخرى، أي أن المصيبة مركبة هنا، وحتماً أن هذا الخراب قد أمتد ليشمل متحف (الموروث الشعبي) والذي يشغل قصر مجاور آخر هو (دار الشكر) والمتصل بمحيط مجمع المتحف من جهة (قبة المتوكل).

وفي وسط هذه الصورة السوداوية المحبطة، هناك جانب أبيض، فقد بُني بداية هذه الألفية مخزن تحت أرضي يشغل أغلب مساحة الفناء الأمامي للمتحف وهو مغطى بسقف خرساني سميك للغاية ثم تغطيه طبقة من الحصى والأحجار وطبقة ترابية لا تقل عن متر ترتصف فوقها أرضية الساحة الحجرية، تم انجاز هذا المشروع ضمن المشروع الهولندي لتطوير المتحف الوطني، وكأنه استشعار جميل لما سيأتي، استفادة من تجربة متاحفهم وما لحقها من ضرر خلال الحرب العالمية الثانية، وكان كثير من الناس يعارضون حينها بناء هذا المخزن ويعتبرونه ترف لا حاجة له، ولكن أثبتت الأيام أهميته الاستراتيجية. ولكن السؤال الذي ما يزال يقلقني هو : هل بالفعل نقلت جميع قطع المجموعة من مخازن (الدار) أم لم تنقل ؟ لأن عملية النقل كما أتذكر كانت عملية معقدة وتحتاج الى تمويل لم يتوفر حينها، حيث يستقضي قبل نقل كل قطعة تنظيفها، تعقيمها، ترميمها أن لزم وأغلبها تحتاج لترميم أثري متعب ومكلف، مروراً بتسجيلها وتصويرها وتوثيقها وتصنيفها ..الخ.

 

وعلى سبيل الطرافة فإن كل هذه المجموعة لا تضم سوى قطعتين كانتا هدية للمتحف من الرئيس السابق (علي عبدالله صالح) طوال عهده المديد الذي أمتد أكثر من ثلاثة عقود، وهما أسد كيني محنط مع لبؤة أخرى كانتا قد أهديا اليه من كينيا، ويا ما استغلت هذه الهدية المتواضعة جداً في التطبيل الإعلامي والتطبيل.

السؤال هو : أين اليونسكو مثلاً مما حدث؟ هذه المنظمة التي طالما صدعت رؤوسنا بحرصها على حماية وحفظ التراث الإنساني، حتى أنها أعاقت مشروع المخزن الأرضي هذا فترة بضغطها على الجهة الممولة للتأكد أولاً قبل الحفر من كون هذه الساحة ليست منطقة أثرية، وبالفعل أجرينا بعض الحفريات والمجسات الاختبارية وأثبتنا هذا، دعك من هذا كله على أهميته البالغة، فتضرر وتدمير مقتنيات المتحف الوطني بصنعاء ليس سوى حلقة ضمن سلسلة من مئات الحلقات لتدمير وطمس التاريخ الثقافي اليمني خلال عشرية الجمر هذه، أين منظمة (اليونسكو) من قصف مواقع مدرجة على قائمة التراث العالمي، كصنعاء القديمة وزبيد؟ ، وأين هي من مسح متحف (ذمار الإقليمي) النموذجي من على وجه الأرض وتحويله الى أثر بعد عين هو ومجموعته الأثرية بفعل غارة سعودية، وبالمناسبة متحف ذمار هو المتحف اليمني الوحيد الذي اُسس كمتحف، بينما بقية المتاحف تشغل مباني تاريخية جاهزة، وقد خُصص تحديداً لآثار مملكة (حمير) الموجود مركزها ضمن محيطه الجغرافي، هو ومتحف أبين بنيا في الأصل كمتاحف، فدمرت الثاني (القاعدة) ومسحت الأول (ربة القاعدة) ، أين اليونسكو من استهداف أشهر معالم وآثار اليمن على الإطلاق (سد مارب) ومسجد (الهادي) بصعدة وعشرات بل مئات المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والمساجد والمتاحف التي قصفها العدوان السعودي، وأتذكر أنني قد نشرت مقال يضم هذه الجردة والى السنة الخامسة للعدوان فقط، بأرقام موثقة ورسمية حصلت عليها من رئيس هيئة الآثار السابق الصديق (مهند السياني) حيث تشمل القائمة مئات المواقع والمعالم التاريخية ، وقد قمت بنشرها في حينه في صحيفة (الأخبار) البيروتية.

 

وليس الحال في المناطق والمحافظات المحتلة بأفضل مما هو في المحافظات الحرة، وهو تدمير أبشع وأقبح وأوقح، فما لم يدمره القصف دمره الإهمال والسرقات والنهب والبيع والتدمير وسأذكر نماذج بسيطة فقط مما أعرف لأهم هذه المتاحف والمواقع، فمتحف عدن مثلاً تصدمنا كل يوم أخبار بيع أجزاء من مقتنياته في مزادات التحف الأوربية، متحف (المكلا) كان يتعرض خلال السنوات الأخيرة لعمليات اقتحام وسرقة شبه أسبوعية، لتهالك أبوابه بفعل الرطوبة لمجاورته للبحر، وبسبب عدم وجود حتى حراسة لعدم توفر تكاليف وجودهم، حتى نُهبت قطع كثيرة من مجموعته السلطانية (للدولة القعيطية)، وما نجا من مجموعته الأثرية أجزم بأنه قد تضرر وربما تلف بفعل الرطوبة و لعدم وجود أساليب الحفظ المناسبة كونه المجموعة شبه مدفونة في بدروم القصر لحمايتها خشية السرقة، أما متحف (سيئون) فقد كنت شاهد في المحكمة على أحدى قضاياه، فقد ظل يتجول شاب من أحدى المديريات الجبلية التي تحكم اليوم عدن، ظل يتجول ثلاث ليال منفصلة أمام كاميرات المراقبة قبل أن يسرق عدد من مقتنياته التراثية، فقد كان لحسن الحظ سابق غبي أو ربما فضل الخفيف والقابل للتصريف بسرعة، فلم يقترب من المجموعات الأثرية بل أخذ عدد من التحف التراثية وقام ببيعها لزبون سعودي ذُكر اسمه في المحكمة، المهم أمضى هذا الشاب سنة بالضبط أو ربما أقل، ثم تكفلت السلطة المحلية بالمحافظة بضمه الى كشف المعسرين ودفعت من ميزانيتها مبلغ (ثلاثة مليون) للمتحف لشراء أغراض مشابهة، وما قد راح راح، نعم هكذا بمنتهى البساطة، وقد كنت أحد خبيري آثار طلبتنا المحكمة لتقييم المسروقات و(كلفتت القضية).

 

 

هذا عن المتاحف والآثار الجاهزة، أما المعالم التاريخية فتدمر وتهد ويُعاد بنائها بالخرسانة، كما تنبش المواقع الأثرية ويُبسط على أراضيها وبيع مواقعها، وتجريف حتى تربتها الخصبة وبيعها كسماد للمزارع، حتى المقتنيات القديمة تكونت ما يشبه العصابات، حيث تُلف السيارات الى البيوت وتُشترى بأبخص الأثمان أي منتجات حرفية منقرضة ، وتهرب أو بالأصح تشحن أمام الجميع الى السعودية تحديداً من أجل أن يُزيُن بها أثرياء النفط الجهلة قصورهم! الخلاصة وهذه نتيجة حتمية، سنكتشف بعد فترة وجود هوة رهيبة في تاريخنا الثقافي سنعجز عن تغطيتها بأي معروضات مناسبة !!

وختاماً لابد من التأكيد على هذه الحقيقة لمنع استغلالها أو توظيفها سياسياً، وهو أن هذا الوضع الثقافي المزري لا يعني أن هذا القطاع كان محمي ومزدهر أيام حكم عفاش، على العكس ففي تلك الحقبة كان حتى كبار الضباط والمشايخ ينهبون ويتاجرون ويهربون الآثار، وقد رأينا مثلاً المجموعة الأثرية التي تمت مصادرتها من منزل (مقولة) بأعقاب فتنة ديسمبر 2017، أنا شخصيا عندما كنت بالمتحف الوطني كان لا يمر أسبوع دون ضبط شحنة آثار في مطار صنعاء وأرسالها لنا، ثم نعيدها أحياناً بناء على أوامر عليا لأصحابها، وذلك بحسب موقع ومكانة الشخص، هذا ما يتم ضبطه، أما ما يمر فهو أضعاف.. أضعاف ما يُضبط بالطبع، وتعلمون جميعكم حالة الفساد المستشري حينها، وليس مطار صنعاء الدولي فقط، بل كل مطارات ومنافذ الجمهورية البحرية والبرية، وعلى عينك يا تاجر ..

 

نقلا عن موقع الأحقاف نيوز